لما استشهد مصعب بن عمير رضي الله عنه في غزوة أحد وكان شديد الشبه بالرسول صلي الله عليه وسلم ظن المشركون أنهم قتلوا النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال ابن قمئة -الذي قتل مصعب بن عمير-: "قتلتُ محمدًا".
وانتشر الخبر في أرض المعركة بكاملها وأحبط كثير من المسلمين في أرض القتال، ووصل الإحباط بالبعض أن قعد عن الجهاد والقتال من حوله وهو لا يرفع سيفه ليدافع حتى عن نفسه، ولكن هناك مثل ثابت بن الدَّحْدَاح رضي الله عنه لما رأى اليأس والإحباط من المسلمين ، فقال لهم في إيمان عميق وفَهْمٍ دقيق: "إن كان محمدٌ قد قُتل، فإن الله حي لا يموت". ثم قاتل حتى استشهد.
وقال ذلك أيضًا أنس بن النضر للمسلمين : "ماذا تنتظرون؟" قالوا: "قتل النبي صلى الله عليه وسلم ". فقال لهم في منتهى الشجاعة والقوة: "قوموا فموتوا على ما مات عليه؛ إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت". ثم قال للمسلمين القاعدين عن القتال: "اللهم إني أعتذرُ إليك مما صنع هؤلاء ويعني(المسلمين) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء" يعني (المشركين) ثم تقدم ليقاتل المشركين، فلقيه سعد بن معاذ، فقال له سعد: "أين يا أبا عمر؟" فقال أنس: "واهًا لريح الجنة يا سعد، إني أجدها دون أُحُد". فتقدم وقاتل المشركين قتالاً ضاريًا حتى قُتل شهيدًا ، وقد طُعن أكثر من ثمانين طعنةً في جسده، وما عرفته إلا أخته من علامة في بنانه.
واستمرت إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة إلى أن اكتشف كعب بن مالك أن رسول الله حيًّا ولم يُقتل، فنادى في المسلمين: "يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله . فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن اصمت؛ لئلا يعرف موضعه المشركون، ومع ذلك فقد سمع ثلاثون من المسلمين كلام كعب بن مالك، ففاءوا إلى النبي وأحاطوا به، وقادهم النبي إلى الانسحاب المنظم في اتجاه الجبل، وينادي النبي صلى الله عليه وسلم على مجموعة أخرى من المسلمين: "إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ".
وهناك مجموعة لم تقعد عن القتال في أرض المعركة وحسب، بل قررت الفرار من أرض المعركة، فمنهم من فرَّ وهو يصعد إلى الجبل، والبعض فرَّ في طريقه إلى المدينة حتى وصل إلى المدينة المنورة في فراره، والرسول ينادي عليهم وهم يسمعون ولا يلبون. ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه فقال: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153].
وبرغم ذلك استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينسحب إلى الجبل، هو ومن معه من المسلمين، وقد رآه أُبيّ بن خلف أحد كبار المشركين وهو يصعد فوق الجبل، فجاء من بعيد وهو يقول: "لا نجوت إن نجا". فقال أحد المسلمين: "أيعطف عليه أحدٌ منا فيقتله؟" فقال النبي : "دَعُوهُ". ولما دنا من النبي تناول عليه الصلاة والسلام حربته وضربه ضربة قد خدشت فيه خدشًا بسيطًا جدًّا، وصرخ أُبيّ بن خلف وصرع على الأرض، وقام وظل يجري وهو يقول: "قتلني والله محمد". واستعجب المشركون، وقالوا: "ذهب والله فؤادُك، والله إنْ بك من بأس". فهو خدش بسيط، فقال: "إنه قد قال لي بمكة: أنا أقتلك؛ فوالله لو بصق عليَّ لقتلني".
وكانت هذه الكلمات تعبر عن اقتناع المشركين جميعًا بأن كلام النبي حق، وأن ما بُعث به الصدق، وأنهم كانوا يكذِّبون -لعنهم الله- من أجل مصالحهم وأهوائهم.
وكما تنبأ النبي ، وكما أخبر قبل ذلك بالوحي، مات عدو الله أبيّ بن خلف والمشركون قافلون إلى مكة من جرَّاء الخدش البسيط الذي أصابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصعود إلى جبل أُحُد، وكان قد أصيب بإصابات كثيرة حالت بينه وبين صعود الجبل، واعترضته صخرة كبيرة لم يستطع تسلقها، فجاء طلحة بن عبيد الله رغم الإصابات التي في جسده، فقد أصيب بتسع وثلاثين إصابة إلا أنه رضي الله عنه جلس ليصعد النبي على ظهره، فقال صلى الله عليه وسلم : "أَوْجَبَ طَلْحَةُ"
قد فعل ما يجب أن يفعل، وكان من العشرة المبشرين بالجنة، وكان إذا ذُكر أمام أبي بكر يومُ أُحد قال: "هذا اليوم كان كله لطلحة". رضوان الله عليهم أجمعين.
وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يصعد الجبل هو ومن معه، ورآه خالد بن الوليد ورآه أبو سفيان فقدِما لمنع المسلمين من صعود الجبل وإكمال القتال، فقال صلى الله عليه وسلم : "اللَّهُمَّ إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا".
وانتدب فرقة ممن معه على رأسهم عمر بن الخطاب لردِّ المشركين عن صعود الجبل، فقاتلوا قتالاً شديدًا، واستطاعوا أن يردوا المشركين بالفعل عن صعود الجبل. واستطاع رسول الله أن يصعد إلى الجبل هو ومن معه من المسلمين، واختفى المسلمون في داخل الجبل.
المصادر:
ابن هشام
الواقدي
المباركفوري
ابن كثير
_________________