صــــــــــــــــــــــــلاة الــــــــــــــــــــــتراويح
هي صلاة القيام في رمضان، وهي أفضل الصلاة بعد الفريضة، روى أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْمَفْرُوضَةِ، صَلاةٌ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الْمُحَرَّمَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
وقد دلت السنة على فضل التعاون على قيام الليل؛ فقد روى أبو داود عن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا أَيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا، أَوْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا، كُتِبَا فِي الذَّاكِرِينَ وَالذَّاكِرَاتِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وقد رتب النبي -صلى الله عليه وسلم- الأجر والثواب على قيام الليل والاجتهاد في ذلك، فروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِينَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
والأفضل أن يصليها مع الإمام في جماعة حتى ينصرف الإمام ليكتب له قيام الليل كله؛ لما روى أبو داود عن جبير بن نفير عن أبي ذَر -رضي الله عنه- قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- رَمَضَانَ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟ قَالَ: فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ)، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلاَحُ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْفَلاَحُ؟ قَالَ: السُّحُورُ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِقِيَّةَ الشَّهْرِ (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
فقد قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الليل بأصحابه جماعة ثلاث ليالي، لكن لم يداوم على جماعة واحدة؛ لئلا يفترض عليهم، فلما مات الرسول -صلى الله عليه وسلم- استقرت الشريعة، فلما كان عمر -رضي الله عنه- جمعهم على إمام واحد.
ومما يحرص عليه الشيطان إشغال الناس عن العبادة، واستغلال الفرص والمنح الربانية التي قد لا تتكرر، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (افعلُوا الخَيْرَ دَهْرَكم، وتَعَرَّضُوا لِنَفَحاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ فإِنَّ لِلَّهِ نَفَحاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِها مَنْ يشاءُ مِنْ عِبادِهِ وسَلوا اللَّهَ أنْ يَسْتُرَ عَوْراتِكمْ وأنْ يُؤَمِّنَ رَوْعاتِكمْ) (رواه الطبراني في الكبير، وحسنه الألباني).
ومن ذلك: صلاة التراويح حيث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه)، فينشغل الناس عنها بعددها فمن قائل: لا تجوز الزيادة على ثلاثة عشرة ركعة! ومن قائل: ببدعة القيام الثاني، وعدم جواز الاجتماع على صلاة أخرى بعد التراويح!
وقد دلت الشريعة الغراء على أن الأمر في ذلك واسع يسعنا ما وسع السلف، وغايته أن يقال: إن هذا من الخلاف السائغ الذي لا يبدع فيه المخالف ولا يفسق، ولا ينكر عليه، وذلك لما توافرت به أدلة السنة على ذلك، وأقوال السادة الأئمة -رضوان الله عليهم-.
فقد جاء في الصحيحين: عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَخْطُبُ فَقَالَ: كَيْفَ صَلاةُ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ: (مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ تُوتِرُ لَكَ مَا قَدْ صَلَّيْتَ).
وقد أطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- في جواب السائل فلم يحدد له عددًا، وقد كان الرجل يجهل بكيفية قيام الليل وجهله بالكمية أولى، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وروى أبو داود عن قيس بن طلق قال: زَارَنَا طَلْقُ بْنُ عَلِيٍّ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَمْسَى عِنْدَنَا، وَأَفْطَرَ، ثُمَّ قَامَ بِنَا اللَّيْلَةَ، وَأَوْتَرَ بِنَا، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى مَسْجِدِهِ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا بَقِيَ الْوِتْرُ قَدَّمَ رَجُلاً، فَقَالَ: أَوْتِرْ بِأَصْحَابِكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (لاَ وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
والأثر يدل على الزيادة على ثلاث عشرة ركعة، وعلى جواز الاجتماع على صلاة بعد التراويح، كما يدل على جواز الصلاة بعد الوتر.
وروى البيهقي وغيره عن السائب بن يزيد الصحابي -رضي الله عنه- قال: "كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في شهر رمضان بعشرين ركعة. قال: وكانوا يقرؤون بالمئين، وكانوا يتوكؤون على عصيهم في عهد عثمان -رضي الله عنه- من شدة القيام".
قال شعيب الأرنؤوط: هذا إسناد صحيح رجاله كلهم عدول ثقات، وصحح إسناده النووي في المجموع، والعراقي في طرح التثريب، والسيوطي في المصابيح، وقال المباركفوري في التحفة: صحح إسناده النووي وغيره.
وحديث عائشة -رضي الله عنها- في وصف وتر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قالت: "ثُمَّ يُوتِرُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ" (روا مسلم).
وهذه أقوال السادة الأئمة والعلماء في عدد ركعات التراويح:
الحنابلة:
قال ابن قدامة في المغني ج2: "والمختار عند أبي عبد الله -رحمه الله- فيها عشرون ركعة، وبهذا قال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، وقال مالك: ستة وثلاثون... وعمر -رضي الله عنه- لما جمع الناس على أبي بن كعب -رضي الله عنه- كان يصلي لهم عشرين ركعة.. وعن علي أنه أمر رجلاً يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة وهذا كالإجماع"، وقال ابن مفلح في المبدع: "وهي عشرون ركعة في قول أكثر العلماء".
المالكية:
قال ابن عبد البر في الاستذكار: والصحيح ثلاث وعشرون ركعة، وإحدى وعشرون ركعة، وروي عشرون ركعة عن علي، وهو قول جمهور العلماء، وبه قال الكوفيون والشافعي وأكثر الفقهاء، وهو الصحيح عن أبي بن كعب من غير خلاف من الصحابة.
قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن داود: قيام رمضان عشرون ركعة سوى الوتر.
وقال الحافظ تقي الدين السبكي في إشراق المصابيح في صلاة التراويح، أراد أمير المدينة أن ينقصها عن العدد الذي كان أهل المدينة يقومون به وهو تسع وثلاثون؛ فشاور مالكًا فنهاه عن ذلك.
قال الشيخ عطية محمد سالم في التراويح: عمدة المالكية المتأخرين على ما جاء في مختصر خليل، ونصه يقول: وتجزئ ثلاث وعشرون، ثم جعلت ستًا وثلاثون.
الأحناف:
قال في فتح القدير على الهداية: ثبت العشرون في زمن عمر في الموطأ عن يزيد بن روماني وفيه ثلاث وعشرون، وعن السائب وفيه عشرون ركعة.
قال السرخسي في المبسوط: "فإنها عشرون ركعة سوى الوتر عندنا".
الشافعية:
قال النووي في المجموع: "مذهبنا أنها عشرون ركعة سوى الوتر، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وداود، ونقله القاضي عياض عن جمهور العلماء".
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها".
وقال محمد بن نصر في قيام الليل: قال إسحاق بن منصور، قلت لأحمد: كم ركعة يصلي في قيام شهر رمضان؟
فقال: قد قيل فيها أقوال، إنما هي تطوع.
وعن الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة تسعًا وثلاثون قال: أذهب إلى عشرون ركعة قال: وليس في شيء من هنا حد ينتهي إليه؛ لأنه نافلة فإن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وهو أحب إلي، وإن أكثروا الركوع فحسن.
وقال عطاء: أدركتهم يصلون في رمضان عشرون ركعة والوتر ثلاث ركعات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (22/272): "قيام رمضان لم يوقت النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه عددًا معينًا، بل كان لا يزيد هو -صلى الله عليه وسلم- عن ثلاثة عشر ركعة، لكن كان يطيل الركعات؛ فلما جمعهم عمر -رضي الله عنه- على أبي بن كعب -رضي الله عنه- كان يصلي بهم عشرين ثم يوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد في عدد الركعات، وكان طائفة من السلف يقومون بأربعين، وآخرون بست وثلاثين، وهذا كله سائغ.
فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن، والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان منهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر وثلاث هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين".
وقد لخص شيخ الإسلام مذاهب العلماء، قال -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (23/112، 113، 120): تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان، فإنه ثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة ويوتر بثلاث؛ فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة؛ لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر، واستحب آخرون تسعة وثلاثين ركعة بناء على أنه عمل أهل المدينة القديم.
وقالت طائفة: فقد ثبت في الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يزيد في رمضان، واضطرب قوم في هذا الأصل لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين.
والصواب: أن ذلك جميعه حسن كما قد نص على ذلك الإمام أحمد، وأنه لا يتوقف في قيام رمضان عدد؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يوقت فيها عددًا، وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره، وأبي بن كعب -رضي الله عنه- كثر الركعات؛ ليكون ذلك عوضًا عن طول القيام، وقد قال قوم بكراهة التعقيب في رمضان.
والتعقيب كما قال ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: هو أن يصلي بعد التراويح نافلة أخرى جماعة أو يصلي التراويح في جماعة أخرى.
نقل محمد بن نصر في قيام الليل عن الحسن وقتادة أنهما كانا يكرهان التعقيب في رمضان، وعن سعيد بن جبير أنه كره التعقيب في رمضان، ولكن جاء عن أنس -رضي الله عنه- أنه كان لا يرى به بأسًا، وقال: "إنما يرجعون إلى خير يرجونه، ويفرون من شر يخافونه".
وجاء في المغني عن أحمد: أنه لا بأس به، ونقل محمد بن الحكم عنه الكراهة إلا أنه قول قديم، أو أحمد كره التعقيب الذي يقول فيه المؤذن: "حي على الصلاة، حي على الفلاح".
وتلك نقول أهل العلم والسادة الأئمة -رضوان الله عليهم- المستنبطة من الأحاديث وأفعال الصحابة -رضوان الله عليهم- تدل على جواز الزيادة على ثلاث عشرة ركعة، وجواز الاجتماع على صلاة بعد التراويح وجواز التنفل بعد الوتر؛ ولذا فينبغي الحرص على الصلاة مع الإمام حتى ينصرف وذلك يكون من إدراك تكبيرة الإحرام في صلاة العشاء حتى صلاة الوتر، ثم الزيادة بعد الوتر مثنى مثنى لمن أراد.
وليعلم العبد أن العمر ينقضي، وأن الفرص قد لا تتكرر؛ فلا أقل من أن ينفق الإنسان في رمضان ستين ساعة مع الإمام حتى يكتب له قيام الليل، ويحاول الزيادة حتى يكتب من المقنطرين الذين يأخذون أجرهم بالقنطار يوم القيامة؛ وهو ما دفع ابن حجر -رحمه الله- إلى عدِّ آي المصحف فقال: "من قوله -تعالى-: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) إلى آخر المصحف ألف آية".
...........................................[b]