عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وفي كلٍّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تَعْجَز .. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله، وما شاء فعل، فإن لَوْ تفتح عمل الشيطان"
رواه مسلم.
.................................................................
هذا الحديث اشتمل على أصول عظيمة كلمات جامعة.
فمنها: إثبات المحبة صفة لله، وأنها متعلقة بمحبوباته وبمن قام بها ودلّ على أنها تتعلق بإرادته ومشيئته، وأيضاً تتفاضل. فمحبته للمؤمن القوي أعظم من محبته للمؤمن الضعيف.
ودلّ الحديث على أن الإيمان يشمل العقائد القلبية والأقوال والأفعال، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة فإن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول: "لا إله إلا الله" وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة منه. وهذه الشعب التي ترجع إلى الأعمال الباطنة والظاهرة كلها من الإيمان. فمن قام بها حق القيام، وكَمَّل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وكمَّل غيره بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر: فهو المؤمن القوي الذي حاز أعلى مراتب الإيمان. ومن لم يصل إلى هذه المرتبة: فهو المؤمن الضعيف.
وهذا من أدلة السلف على أن الإيمان يزيد وينقص. وذلك بحسب علوم الإيمان ومعارفه، وبحسب أعماله.
وهذا الأصل قد دلّ عليه الكتاب والسنة في مواضع كثيرة:
ولما فاضل النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين قويهم وضعيفهم خشي من توهم القدح في المفضول، فقال: "وفي كل خير" وفي هذا الاحتراز فائدة نفيسة، وهي أن على من فاضل بين الأشخاص أو الأجناس أو الأعمال أن يذكر وجه التفضيل ، وجهة التفضيل. ويحترز بذكر الفضل المشترك بين الفاضل والمفضول، لئلا يتطرق القدح إلى المفضول وكذلك في الجانب الآخر إذا ذكرت مراتب الشر والأشرار، وذكر التفاوت بينهما. فينبغي بعد ذلك أن يذكر القدر المشترك بينهما من أسباب الخير أو الشر. وهذا كثير في الكتاب والسنة.
وفي هذا الحديث: أن المؤمنين يتفاوتون في الخيرية، ومحبة الله والقيام بدينه، وأنهم في ذلك درجات {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} ويجمعهم ثلاثة أقسام: السابقون إلى الخيرات، وهم الذين قاموا بالواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، وفضول المباحات وكملوا ما باشروه من الأعمال، واتصفوا بجميع صفات الكمال. ثم المقتصدون الذين اقتصروا على القيام بالواجبات وترك المحظورات. ثم الظالمون لأنفسهم، الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً.
وقوله صلى الله عليه وسلم : "احرص على ما ينفعك واستعن بالله" كلام جامع نافع، مُحِتوٍ على سعادة الدنيا والآخرة.
والأمور النافعة قسمان: أمور دينية، وأمور دنيوية. والعبد محتاج إلى الدنيوية كما أنه محتاج إلى الدينية. فمدار سعادته وتوفيقه على الحرص والاجتهاد في الأمور النافعة منهما، مع الاستعانة بالله تعالى، فمتى حرص العبد على الأمور النافعة واجتهد فيها، وسلك أسبابها وطرقها، واستعان بربه في حصولها وتكميلها: كان ذلك كماله، وعنوان فلاحه. ومتى فاته واحد من هذه الأمور الثلاثة: فاته من الخير بحسبها، فمن لم يكن حريصاً على الأمور النافعة، بل كان كسلاناً لم يدرك شيئاً. فالكسل هو أصل الخيبة والفشل. فالكسلان لا يدرك خيراً، ولا ينال مكرمة، ولا يحظى بدين ولا دنيا، ومتى كان حريصاً، ولكن على غير الأمور النافعة: إما على أمور ضارة، أو مفوتة للكمال كان ثمرة حرصه الخيبة، وفوات الخير، وحصول الشر والضرر، فكم من حريص على سلوك طرق وأحوال غير نافعة لم يستفد من حرصه إلا التعب والعناء والشقاء.
ثم إذا سلك العبد الطرق النافعة، وحرص عليها، واجتهد فيها: لم تتم له إلا بصدق اللجوء إلى الله، والاستعانة به على إدراكها وتكميلها وأن لا يتكل على نفسه وحَوْله وقوته، بل يكون اعتماده التام بباطنه وظاهره على ربه. فبذلك تهون عليه المصاعب، وتتيسر له الأحوال محتاج – بل مضطر غاية الاضطرار – إلى معرفة الأمور التي ينبغي الحرص عليها، والجد في طلبها.
فالأمور النافعة في الدين ترجع إلى أمرين: علم نافع، وعمل صالح.
أما العلم النافع: فهو العلم المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين. وهو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث وتفسير وفقه، وما يعين على ذلك من علوم العربية بحسب حالة الوقت والموضع الذي فيه الإنسان، وتعيين ذلك يختلف باختلاف الأحوال. والحالة التقريبية: أن يجتهد طالب العلم في حفظ مختصر من مختصرات الفن الذي يشتغل فيه. فإن تعذر أو تعسر عليه حفظه لفظاً، فليكرره كثيراً، متدبراً لمعانيه، حتى ترسخ معانيه في قلبه. ثم تكون باقي كتب هذا الفن كالتفسير والتوضيح والتفريع لذلك الأصل الذي عرفه وأدركه، فإن الإنسان إذا حفظ الأصول وصار له ملكة تامة في معرفتها هانت عليه كتب الفن كلها: صغارها وكبارها. ومن ضيع الأصول حرم الوصول.
فمن حرص على هذا الذي ذكرناه، واستعان بالله: أعانه الله، وبارك في علمه، وطريقه الذي سلكه.
ومن سلك في طلب العلم غير هذه الطريقة النافعة: فاتت عليه الأوقات، ولم يدرك إلا العناء، كما هو معروف بالتجربة. والواقع يشهد به، فإن يسر الله له معلماً يحسن طريقة التعليم، ومسالك التفهيم: تم له السبب الموصل إلى العلم.
وأما الأمر الثاني – وهو العمل الصالح -: فهو الذي جمع الإخلاص لله، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو التقرب إلى الله: باعتقاد ما يجب لله من صفات الكمال، وما يستحقه على عباده من العبودية، وتنزيهه عما لا يليق بجلاله، وتصديقه وتصديق رسوله في كل خبر أخبرا به عما مضى، وعما يستقبل عن الرسل، والكتب والملائكة، وأحول الآخرة، والجنة والنار، والثواب والعقاب وغير ذلك ثم يسعى في أداء ما فرضه الله على عباده: من حقوق الله، وحقوق خلقه ويكمل ذلك بالنوافل والتطوعات، خصوصاً المؤكدة في أوقاتها، مستعيناً بالله على فعلها، وعلى تحقيقها وتكميلها، وفعلها على وجه الإخلاص الذي لا يشوبه غرض من الأغراض النفسية. وكذلك يتقرب إلى الله بترك المحرمات، وخصوصاً التي تدعو إليها النفوس، وتميل إليها. فيتقرب إلى ربه بتركها لله، كما يتقرب إليه بفعل المأمورات، فمتى وفّق العبد بسلوك هذا الطريق في العمل، واستعان الله على ذلك أفلح ونجح. وكان كماله بحسب ما قام به من هذه الأمور، ونقصه بحسب ما فاته منها.
وأما الأمور النافعة في الدنيا: فالعبد لا بد له من طلب الرزق. فينبغي أن يسلك أنفع الأسباب الدنيوية اللائقة بحاله. وذلك يختلف باختلاف الناس، ويقصد بكسبه وسعيه القيام بواجب نفسه، وواجب من يعوله ومن يقوم بمؤنته، وينوي الكفاف والاستغناء بطلبه عن الخلق. وكذلك ينوي بسعيه وكسبه تحصيل ما تقوم به العبوديات المالية: من الزكاة والصدقة، والنفقات الخيرية الخاصة والعامة مما يتوقف على المال، ويقصد المكاسب الطيبة، متجنباً للمكاسب الخبيثة المحرمة. فمتى كان طلب العبد وسعيه في الدنيا لهذه المقاصد الجليلة، وسلك أنفع طريق يراه مناسباً لحاله كانت حركاته وسعيه قربة يتقرب إلى الله بها. ومن تمام ذلك: أن لا يتكل العبد على حوله وقوته وذكائه ومعرفته، وحذقه بمعرفة الأسباب وإدارتها، بل يستعين بربه متوكلاً عليه، راجياً منه أن ييسره لأيسر الأمور وأنجحها، وأقربها تحصيلاً لمراده. ويسأل ربه أن يبارك له في رزقه، فأول بركة الرزق: أن يكون مؤسساً على التقوى والنية الصالحة. ومن بركة الرزق: أن يوفق العبد لوضعه في مواضعه الواجبة والمستحبة، ومن بركة الرزق: أن لا ينسى العبد الفضل في المعاملة، كما قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} بالتيسير على الموسرين، وإنظار المعسرين، والمحاباة عند البيع والشراء، بما تيسر من قليل أو كثير. فبذلك ينال العبد خيراً كثيراً.
فإن قيل: أي المكاسب أولى وأفضل؟
قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك. فمنهم من فضل الزراعة والحراثة. ومنهم من فضل البيع والشراء. ومنهم من فضل القيام بالصناعات والحرف ونحوها. وكل منهم أدلى بحجته. ولكن هذا الحديث هو الفاصل للنزاع، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال : "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله" والنافع من ذلك معلوم أنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. فمنهم من تكون الحراثة والزراعة أفضل في حقه، ومنهم من يكون البيع والشراء والقيام بالصناعة التي يحسنها أفضل في حقه. فالأفضل من ذلك وغيره الأنفع.
فصلوات الله وسلامه على من أعطي جوامع الكلم ونوافعها.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم حضّ على الرضا بقضاء الله وقدره، بعد بذل الجهد، واستفراغ الوسع في الحرص على النافع. فإذا أصاب العبد ما يكرهه فلا ينسب ذلك إلى ترك بعض الأسباب التي يظن نفعها لو فعلها، بل يسكن إلى قضاء الله وقدره ليزداد إيمانه، ويسكن قلبه وتستريح نفسه؛ فإن " لو " في هذه الحال تفتح عمل الشيطان بنقص إيمانه بالقدر، واعتراضه عليه، وفتح أبواب الهم والحزن والمضعف للقلب. وهذه الحال التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم هي أعظم الطرق لراحة القلب، وأدعى لحصول القناعة والحياة الطيبة، وهو الحرص على الأمور النافعة، والاجتهاد في تحصيلها، والاستعانة بالله عليها، وشكر الله على ما يسره منها، والرضا عنه بما فات، ولم يحصل منها.
واعلم أن استعمال " لو " يختلف باختلاف ما قصد بها. فإن استعملت في هذه الحال التي لا يمكن استدراك الفائت فيها فإنها تفتح على العبد عمل الشيطان، كما تقدم. وكذلك لو استعملت في تمني الشر والمعاصي فإنها مذمومة، وصاحبها آثم، ولو لم يباشر المعصية. فإنه تمنى حصولها.
وهذا الأصل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم - وهو الأمر بالحرص على الأمور النافعة، ومن لازمه اجتناب الأمور الضارة مع الاستعانة بالله – يشمل استعماله والأمر به في الأمور الجزئية المختصة بالعبد ومتعلقاته، ويشمل الأمور الكلية المتعلقة بعموم الأمة. فعليهم جميعاً أن يحرصوا على الأمور النافعة. وهي المصالح الكلية والاستعداد لأعدائهم بكل مستطاع مما يناسب الوقت، من القوة المعنوية والمادية، ويبذلوا غاية مقدورهم في ذلك، مستعينين بالله على تحقيقه وتكميله، ودفع جميع ما يضاد ذلك. وشرح هذه الجملة يطول وتفاصيلها معروفة.
وقد جميع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الإيمان بالقضاء والقدر، والعمل بالأسباب النافعة، وهذان الأصلان دلّ عليهما الكتاب والسنة في مواضع كثيرة. ولا يتم الدين إلا بهما. بل لا تتم الأمور المقصودة كلها إلا بهما، لأن قوله "احرص على ما ينفعك" أمر بكل سبب ديني ودنيوي، بل أمر بالجد والاجتهاد فيه والحرص لعيه، نية وهمة، فعلاً وتدبيراً.
وقوله: "واستعن بالله" إيمان بالقضاء والقدر، وأمر بالتوكل على الله الذي هو الاعتماد التام على حوله وقوته تعالى في جلب المصالح ودفع المضار، مع الثقة التامة بالله في نجاح ذلك. فالمتبع للرسول صلى الله عليه وسلم يتعين عليه أن يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه، وأن يقوم بكل سبب نافع بحسب قدرته وعلمه ومعرفته
والله المستعان.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين