سعد بن أبي وقاص
أول من رمى بسهم في سبيل الله
.............................................
إسلامه رضي الله عنه :
لقد عانق الإسلام وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان إسلامه مبكراً ، وإنه ليتحدث عن نفسه، فيقول : ( ولقد أتى علي يوم ، وإني لثالث الإسلام يعني أنه كان ثالث أول ثلاثة سارعوا إلي الإسلام )
ففي الأيام الأولي التي بدأ الرسول يتحدث فيها عن الله الأحد ، وعن الدين الجديد الذي يزف الرسول بشراه، وقبل أن يتخذ النبي صلى الله عليه و سلم من دار الأرقم ملاذاً له ولأصحابه الذين آمنوا به كان سعد بن أبي وقاص قد بسط يمينه إلى رسول الله مبايعاً وإن كتب التاريخ والسير لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا بإسلام أبي بكر ، وعلي يده
وقد كان لإسلامه رضي الله عنه قصة فعندما أخفقت كل محاولات رده عن الإسلام لجأت أمه إلى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنها ستهزم روح سعد وترد عزمه إلى وثنية أهله و ذويه فلقد أعلنت أمه صومها عن الطعام و الشراب حتى يعود سعد إلى دين آبائه و قومه ومضت في تصميم مستميت تواصل إضرابها عن الطعام و الشراب حتى أشرفت على الهلاك كل ذلك و سعد لا يبيع إيمانه و دينه بشيء حتى لو كان هذا الشيء حياة أمه
ثم ذهب إليها سعد رضي الله عنه وقد أشرفت على الموت و قال لها : تعلمين والله يا أماه لو كانت لي مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا فكلي -إن شئت- أو لا تأكلي وعدلت أمه عن عزمها ونزل الوحي العظيم بالتحية لموقف سعد و يؤيده فيقول : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) العنكبوت الآية 8
جهاده رضي الله عنه :
أولاً : يوم بدر :
في يوم بدر كان لسعد و أخيه عمير موقفا مشهودا فقد كان عمير يومئذ فتى حدثاً لم يتجاوز الحلم إلا قليلاً فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرض جند المسلمين قبل المعركة توارى عمير أخو سعد خوفاً من أن يراه رسول الله صلى الله عليه و سلم فيرده لصغر سنه ولكن الرسول صلى الله عليه و سلم رآه ورده فبكى حتى رق له قلب رسول الله فأجازه وعند ذلك أقبل عليه سعد فرحاً وعقد عليه حمالة سيفه عقدا لصغر سنه و انطلق الأخوان يجاهدان في سبيل الله حتى استشهد عمير فاحتسبه سعد عند الله
ثانيا : يوم أحد
وفي أحد حين زلزلت الأقدام وقف سعد يناضل دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوسه فكان لا يرمي رمية إلا أصابت من مشرك مقتلاً و لما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم يرمي هذا الرمي جعل يحضه و يقول له : أرم سعد .. فداك أبي وأمي
ثالثا : يوم القادسية :
لما تجهز الفرس لقتال العرب أعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشاً لضربهم و أراد رضي الله عنه أن يقود هذا الجيش بنفسه إلا أن أهل المشورة صرفوه عن ذلك فلما طلب منهم أن يشيروا عليه برجل وكان سعد يومئذ على صدقات هوازن فلما وصل كتاب منه لعمر - حين كان يستشير فيمن يبعث- قال عمر : وجدته
قالوا : من هو ؟
قال : الأسد عادياً سعد بن مالك و قال : إنه شجاع رام
وقال عبد الرحمن بن عوف : الأسد في براثنه : سعد بن مالك الزهري
فاستدعاه عمر رضي الله عنه وقال له : إني وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي فإنك تقدم على أمر شديد كربه لا يخلص منه إلا الحق فعود نفسك و من معك الخير واستفتح به واعلم أن لك عدة و عتاداً وعتاد الخير الصبر فاصبر على ما أصابك
ونظم سعد الجيش وعين قاضيا و مسئولاً عن قسمة الفيء و مسئولاً عن الوعظ و الإرشاد و مترجماً يجيد الفارسية و كاتباً و ما إن وصل القادسية حتى بعث عيونه ليعلموا خبر أهل فارس و أرسل بعض المفارز للإغارة على المناطق المجاورة فعادت كلها بالفتح و الغنائم وأرسل وفوداً إلى كسرى و إلى قائده رستم يعرضون عليهما مطالب المسلمين : الإسلام أو الجزية أو الحرب فاختاروا الحرب
وتحالفت الأمراض على القائد العام سعد فأصابته بعرق النسا و بحبوب و دمامل منعته من الركوب بل حتى من الجلوس فلم يستطع أن يركب ولا أن يجلس فاعتلى القصر وأكب من فوقه على وسادة في صدره يشرف على الناس
وبعد ثلاثة أيام و نصف تهاوى جنود الفرس و تهاوت معهم الوثنية و عبادة النار رغم ما لقي المسلمون من مقاومة عنيفة حتى إن المسلمين خسروا في هذه المعركة أكثر من خمسة و عشرين بالمائة من قواتهم
وتحققت نبوءة النبي صلى الله عليه و سلم حين قال : عصبة من أمتي يفتحون البيت الأبيض بيت كسرى وروى مسلم عن جابر بن السمرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : لتفتحن عصابة من أمتي كنز آل كسرى الذي في الأبيض صلى الله عليه و سلم
وأمضى سعد في القادسية بعد المعركة شهرين ثم أمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يسير إلى المدائن ففعل وسار المسلمون من نصر إلى نصر في برس و بابل ويهرسير فأصبح الجيش في الضفة المواجهة للمدائن وكان النهر عريضاً طافحا بالماء شديد الجريان متلاطم الموج وزاد المد فيه و ارتفعت مياهه ارتفاعاً كبيراً وفي إحدى الليالي رأى سعد رؤيا خلاصتها أن خيول المسلمين قد اقتحمت مياه دجلة وقد أقبلت من المد بأمر عظيم فعزم سعد على العبور
وجهز سعد كتيبتين الأولى "كتيبة الأهوال" و أمر عليها سعد عاصم بن عمرو التميمي و الثانية "كتيبة الخرساء" وأمر عليها القعقاع بن عمرو وكانت مهمتهما أن يخوضوا الأهوال حتى يفسحوا على الضفة الأخرى مكاناً آمنا للجيش العابر على أثرهم وقد نجحوا نجاحاً مذهلاً حتى قال سلمان الفارسي رضي الله عنه : إن الإسلام جديد ذُللت و الله له البحار كما ذُلل لهم البر والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوه أفواجاً لم تضع منهم شكيمة فرس
ويصف المؤرخون الحدث وهم يعبرون دجلة فيقولون : أمر سعد المسلمين أن يقولوا : حسبنا الله و نعم الوكيل ثم اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس وراءه لم يتخلف عنه أحد فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى لموا ما بين الجانبين ولم يعد وجه الماء يرى من أفواج الفرسان و المشاة وجعل الناس يتحدثون وهم يسيرون على وجه الماء كما يتحدثون على و جه الأرض وذلك بسبب ما شعروا به من الطمأنينة و الأمن والوثوق بأمر الله ونصره ووعده و تأييده
وهكذا فتح سعد العراق وأكثر بلاد فارس وأذربيجان والجزيرة وبعض أرمينية أي أنه القسم الجنوبي من تركيا المتاخمة لإيران والقسم الواقع في شمالي إيران والذي يحد روسيا
إن الله يدافع عن الذين آمنوا :
لما كان سعد والياً على الكوفة شكاه بعض أهلها ظلماً فقالوا : إنه لا يحسن الصلاة فعزله عمر رضي الله عنه وقال له عمر : إنهم يزعمون أنك لا تحسن تصلي فقال له سعد وهو يضحك ملء فمه : والله إني لأصلي بهم صلاة رسول الله أطيل الركعتين الأوليين وأقصر في الأخريين فقال له عمر : ذاك الظن بك يا أبا أسحق فأرسل عمر معه إلى الكوفة من يسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجداً إلا سأل عنه فأثنوا عليه جميعاً حتى دخل مسجداً لبني عبس فقام رجل منهم يدعى أسامة بن قتادة فقال : أما إذ ناشدتنا سعداً كان لا يسير بالسرية و لا يقسم بالسوية و لا يعدل في القضية فقال سعد : أما والله لأدعون بثلاث : اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء و سمعة فأطل عمره وأدم فقره وعرضه بالفتن .. فعاش هذا الرجل حتى سقط حاجباه واشتد به الفقر وكان يخرج يسأل الناس ورغم ذلك يقف في طريقه يتعرض للجواري فكان بعد ذلك إذا سئل يقول : شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد
قال عبد الملك بن عمير : فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر و إنه ليتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن ثم يجلس ويبكي ويقول ( شيخ كبير مسكين أصابتني دعوة سعد )
ولما أراد عمر رضي الله عنه إرجاعه إلى الكوفة قال سعد ضاحكاً : أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة و فضل البقاء في المدينة
رضاه بقضاء الله تعالى :
لما قدم سعد إلى مكة و كان قد كف بصره جاءه الناس يهرعون إليه كل واحد يسأله أن يدعو له فيدعو لهذا و هذا وكان مجاب الدعوة قال عبد الله بن سائب : فأتيته و أنا غلام فتعرفت عليه فعرفني وقال : أنت قارئ أهل مكة قلت : نعم فذكر قصة قال في آخرها : فقلت له : يا عم أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك فرد الله عليك بصرك فتبسم و قال : يا بني الرضا بقضاء الله سبحانه عندي أحسن من بصري .
فضائله رضي الله عنه :
وإن لسعد بن أبي وقاص لأمجاداً كثيرة يستطيع أن يباهي بها ويفخر
أولهما: أنه أول من رمي بسهم في سبيل الله ، وأول من رُمي أيضاً
وثانيهما: أنه الوحيد الذي افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد : ارم سعد .. فداك أبي وأمي
أجل كان دائما يتغني بهاتين النعمتين الجزيلتين ، ويلهج بشكر الله عليهما فيقول : والله إني لأول رجل من العرب رمي بسهم في سبيل الله
ويقول علي بن أبي طالب: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يفدي أحد بأبويه إلا سعداً ، فإني سمعته يوم أحد يقول : ارم سعد ... فداك أبي وأمي
كان سعد يعد من أشجع فرسان العرب والمسلمين وكان له سلاحان رمحه.. ودعاؤه.. إذا رمى في الحرب عدوا أصابه.. وإذا دعا على أجاب الله دعوته ..وذلك لأنه كان قد دعا الرسول الكريم له بذلك.. فذات يوم وقد رأي الرسول صلى الله عليه و سلم منه ما سره وقر عينه ، دعا له هذه الدعوة المأثورة : اللهم سدد رميته..وأجب دعوته
ولقد عاش سعد ، حتى صار من أغنياء المسلمين وأثريائهم ، ويوم مات خلف وراءه ثروة غير قليلة..ومع هذا فإذا كانت وفرة المال وحلاله، قلما يجتمعان، فقد اجتمعا بين يدي سعد..إذا أتاه الله ، الكثير ، الحلال ، الطيب
في حجة الوداع ، كان هناك مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وأصابه المرض ، وذهب الرسول يعوده، فسأله سعد قائلاً : يا رسول الله ، إني ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ..؟
قال النبي : لا
قلت : فبنصفه ؟
قال النبي : لا
قلت : فبثلثه ؟
قال النبي : نعم ، والثلث كثير .. إنك أن تذر ورثتك أغنياء ، خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها ، حتى اللقمة تضعها في فم أمرأتك
وفاته رضي الله عنه:
ولم يظل سعد أباً لبنت واحدة.. فقد رزق بعد هذا أبناء آخرين وكان سعد كثير البكاء من خشية الله وكان إذا استمع إلي الرسول يعظهم ، ويخطبهم ، فاضت عيناه من الدمع حتى تكاد دموعه تملأ حجره ويروي لنا ولده لحظاته الأخيرة فيقول : كان رأس أبي في حجري ، وهو يقضى فبكيت فقال : ما يبكيك يا بني ؟ إن الله لا يعذبني أبداً وإني من أهل الجنة إن صلابة إيمانه لا يوهنها حتى رهبة الموت وزلزاله
ولقد بشره الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو مؤمن بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام أوثق إيمان ..وإذن ففيم الخوف ؟
وفوق أعناق الرجال حمل إلي المدينة جثمان آخر المهاجرين وفاة، ليأخذ مكانه في سلام إلي جوار ثلة طاهرة عظيمة من رفاقه الذين سبقوه إلى الله ، ووجدت أجسامهم الكادحة مرفأ لها في تراب البقيع وثراه وكان قد أوصى أن يكفن في جبة صوف له كان قد لقي المشركين فيها يوم بدر فكفن فيها سنة خمس و خمسين و يقال سنة خمسين وهو ابن بضع و سبعين و يقال اثنين و ثمانين وقد صلى عليه من كان حياً من زوجات رسول لله صلى الله عليه و سلم
رضي الله عن سعد..!! رضي الله عن بطل القادسية ، وفاتح المدائن ، ومطفئ النار المعبودة في فارس إلى الأبد