• في رحاب الهجرة :
في الحديث عن إرهاصات الهجرة النبوية المباركة ، قد يظن البعض أنها بدأت قبيل وقوع أحداثها مباشرة
إلا أن التحقيق التاريخي يقول إن إرهاصاتها بدأت مع بداية الرسالة المحمدية ، أي من يوم نزول ( اقرأ )
وذلك بقول ورقة بن نوفل الأسدي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم :
يا ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حيا ، إذ يخرجك قومك .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أو مخرجيّ هم ؟ "
قال : نعم . لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا .
كان الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه قد أزمع الهجرة إلي الحبشة يوما ، وخرج فعلا حتى وصل إلي برك الغماد ( قيل هو موضع وراء مكة بخمس ليال ) فلقيه مالك ابن الدغنة ( سيد الأحابيش ) فأقنعه بالعدول عن ترك مكة وأعاده إليها ، وأدخله في جواره .
ثم يهم الصديق بالهجرة مرة أخري ، ويتجهز لذلك ،
إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : "علي رسلك ، فإني أرجو أن يؤذن لي "
فيقول الصديق : وترجو ذلك بأبي أنت وأمي ؟
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم ". .....
وحينئذ يحبس الصديق نفسه علي رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحبته ، ويبدأ في الإعداد والاستعداد لهذا الحدث العظيم . حتى إن بعض علماء الإسلام المحققين رحمه الله قال :
كان الصديق رحمه الله تعالي مهندس رحلة الهجرة ، إذ اشتري راحلتين ( إحداهما القصواء ) من نعم بني قشير الشهيرة ،،
( تماثل مرسيدس هذا الزمان ) بثمانمائة درهم ، وأمر بعلفهما حتى يأذن الله تعالي ،،
وفى هذا يقول الشيخ محمد أحمد بدوي صاحب ( كفاية المسلم في الجمع بين صحيحي البخاري ومسلم ) رحمه الله تعالى :
[ وعلف هاتين الراحلتين ورق السمر ( وهو الخبط ) أربعة أشهر ] .
قال ابن اسحق :
فأتي جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا تبت هذه الليلة علي فراشك الذي كنت تبيت عليه .
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه :
" نم علي فراشي ، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه ، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم ".آهـ
ثم أمره أن يؤدي عنه الودائع التي عنده للناس .
وهنا .... لا يمكننا أن نسترسل قبل أن نتوقف ونتأمل ونتدبر ....
يعادونه ... ويأتمر أشرافهم علي قتله ....
ومع ذلك ... لا يجدون سواه يأتمنونه علي ودائعهم !!!
وفي المقابل ..
يترك النبي صلى الله عليه وسلم لهم الجمل بما حمل ( يخرج من مكة مهاجرا ) ،،
وفي الاستطاعة أخذ كل الودائع عوضا عن ما يترك في مكة ، ولكنه لم يفعل ، بل وما ينبغي له أن يفعل .
والسبب في الحالين أنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الصادق الأمين ، المبعوث رحمة للعالمين ، المتمم لمكارم الأخلاق ، صلوات ربنا وسلامه عليه .
ويخرج من بيته مخترقا تجمعهم وترصدهم وهو يتلو صدر سورة " يس " ، ويذهب إلي حيث يريد ، وهم لا يشعرون .
[ كان خروجه صلى الله عليه وسلم من بيته لثلاث بقين من شهر صفر ] ،،
ثم ... يذهب إلي بيت الصديق ... ومنه يخرجا معا ، مساء يوم الخميس أي (ليلة الجمعة ) إلي حيث غار ثور ، حيث يقع جنوبي مكة .
ويكون الوصول إليه قبيل فجر الجمعة .
وهناك يمكثان إلي ليلة الاثنين .
وفي هذه المدة تجري أحداث كثيرة يطيب لنا أن نشير إليها وإلي أبطالها .
من أبطال الهجرة النبوية المباركة :
1 ــ عبد الله بن أبي بكر :
[ شقيق أسماء بنت أبي بكر ، أمهما قتيلة بنت عبد العزي من بني عامر بن لؤي القرشية ] ،،
شاب ثقف لقن ، يدلج من عندهما بسحر ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت ، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام .
وقد ذكره صاحب ( در السحابة في بيان مواضع وفيات الصحابة ) بأنه شهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرمي بسهم فجرحه ، فاندمل جرحه ، ثم انتفض به ، فمات في مكة من أول خلافة أبيه .
2 ــ أسماء بنت أبي بكر :
هي أكبر ولد أبي بكر ،،،،، أسلمت بعد 17 نفسا ،،،
روت تقول :
صنعت سفرة للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حين أرادا المدينة ، فقلت لأبي ما أجد شيئا أربطه إلا نطاقي ، قال فشقيه ، ففعلت ، فسميت ذات النطاقين .
وتحدثنا كتب السيرة أنه لما طاش صواب المشركين بحثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، ذهب نفر منهم إلي بيت أبي بكر ، وكان فيهم أبو جهل ، وسألوا عن أبي بكر ، فأجابتهم أسماء قائلة :لا أدري ، فلطمها أبو جهل لطمة منكرة طرح منها قرطها .
وحين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر ، احتمل أبو بكر ماله كله معه ( 5آلاف أو 6 آلاف درهم ) ،، فدخل أبو قحافة _ وقد كف وذهب بصره _ علي أحفاده يتقصي حالهم ، وإذا بأسماء تطمئنه بأن أباها ترك لهم ما يكفيهم. .
ثم إنها كانت حبلي في عبد الله ،،،
ومع أنها كانت في أيامها الأخيرة من الحمل ، إلا أنها كانت تحمل الطعام وتذهب إليهما به ، فتصعد الجبل الشاهق ، ضاربة بذلك أعظم الأمثلة في الإيمان والإخلاص والصبر وتحمل المشاق .
ثم إنها هاجرت إلي المدينة وهي حامل متم ، فوضعت عبد الله بقباء ، فكان أول مولود للمهاجرين في المدينة .
وقد عاشت ذات النطاقين إلي أن ولي ابنها الخلافة ثم قتل ، فماتت بعده بقليل في مكة في سنة 73هـ ، مكفوفة البصر ، عجوزا طوالة ، عمرها نحو 100 عام ، لتكون آخر المهاجرين والمهاجرات وفاة .
3 ــ عامر بن فهيرة ( أبو عمر ) :
مولي أبي بكر الصديق ، كان من السابقين للإسلام ، وكان قارئا كاتبا ، ذكره ابن القيم في ( زاد المعاد ) ضمن كتّاب النبي صلى الله عليه وسلم ، كما ذكره ابن الجوزي في ( صفة الصفوة ) ضمن من شهد غزوتي بدر وأحد ، وقتل شهيدا يوم بئر معونة سنة 4 هـ ، وهو ابن 40 عاما .
كان دوره في ليالي الغار أن يرعي منحة من غنم ، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء ، فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما حتى ينعق عامر بغلس ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليلي .
وفي الطريق ،، يردفه الصديق خلفه مصاحبا لهما . ...
وفي أثناء ذلك يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاب أمن لسراقة بن مالك ، حين لحق بالركب المبارك ، فكتب .
4 ــ عبد الله بن أريقط الدئلي الليثي :
وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها بأنه كان هاديا خريتا ( أي ماهرا بالهداية ) ، استأجراه دليلا لهما في رحلتهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ، فأتاهما في الموعد ، لتبدأ الرحلة الخالدة الميمونة ،
ثم إنه سلك بهما طريق الساحل غير المطروق .....( حوالي 200 ميل )
وقد وصف محطات هذا الطريق الوصف الدقيق الأستاذ الدكتور حسين مؤنس في كتابه القيم ( أطلس تاريخ الإسلام ) ،
وذكر فيه أن وصول ركب الهجرة المبارك إلي قباء كان يوم الاثنين 12 ربيع الأول عام 1 هـ الموافق 24 سبتمبر عام 622 م ،،،
ويجدر بالذكر أن عبد الله بن أريقط هذا كان مشركا آنذاك ....
ومع أن أغلب كتب السيرة سكتت عن ذكر إسلامه من عدمه ، إلا أن صاحب (تحفة الألباب في شرح الأنساب ) ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه : " هو أمين " .
ولعمري .... إن الأمانة لإحدى صفات المؤمن ،،،
ثم ... كيف لرجل أمين يخالط النبي صلى الله عليه وسلم أياما معدودات تكتنفها ظروف هذا السفر المشترك بما تحيط به من مصاعب ومخاوف ، ومع ذلك لا يسلم ؟ !!
إنه لأمر مستبعد ، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بعد وصولهما قباء سالمين أرسلا عبد الله هذا ، ومعه أبا رافع وزيد بن حارثة إلي مكة ، ليأتوا بأهليهما منها [ فاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة وأسماء وعائشة وأم رومان وأم أيمن وأسامة بن زيد ] . علي ما ذكره ابن سعد في طبقاته الكبرى .
5 ــ سراقة بن مالك الجعشمي الكناني المدلجي أبو سفيان :
لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، يرجو أن يرده علي قريش ، فيقبض الجائزة ( وهى مائة ناقة ) ،،
ويدعو النبي صلى الله عليه وسلم قائلا : " اللهم أكفيناه بما شئت " ..... ويتحقق الدعاء فورا .....
فيعتدل ميزان سراقة ،،،
فبعد أن كان أول النهار جاهدا عليهما ، يصبح حارسا ومسلحة لهما في آخره ، إذ يرجع ، فلا يلقي أحدا من الطلب إلا رده .
وقد وعده النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ في نبوءة نبوية محققة أن يلبس سواري كسري أنو شروان ،
ويتحقق ذلك بعد فتح المدائن ( عاصمة الفرس ) في عهد الفاروق عمر بن الخطاب ،،،
إذ كان سراقة قد كف بصره ، يقوده غلامه إلي حيث عمر، فيلبسه سواري كسري . كما وعده الصادق المعصوم صلوات ربنا وسلامه عليه .
أول المهاجرين إلي المدينة :
هو أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ...
كان قد هاجر إلي المدينة قبل بيعة العقبة الكبري بسنة ،
ذلك أنه كان قد قدم من الحبشة إلي مكة ، فآذته قريش ، وبلغه أن جماعة من الأنصار قد أسلموا ، فهاجر إلي المدينة ،
فكان أول المهاجرين إليها . علي ما ذكره الحافظ الذهبي في كتابه ( تاريخ الإسلام ) .
آخر المهاجرين :
العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه ،،،
تأخر في إعلان اسلامه ، حتي إذا رحل إلي المدينة مهاجرا ، لقي النبي صلى الله عليه وسلم قادما منها في طريقه إلي فتح مكة ،
فلما اخبره أنه جاء إليه مهاجرا ، أمره أن يرسل رحله إلي المدينة ، ويرجع معه لفتح مكة ،، قائلا له :
" أنت آخر المهاجرين ، وأنا آخر الأنبياء "
علي ما ذكره صاحب ( الكامل في التاريخ ) ،،
ومنذئذ ، حيث لا هجرة بعد الفتح ، أصبح العباس آخر المهاجرين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في رحاب الهجرة النبوية المباركة
صلاح جاد سلام
_________________