رسالة في ليلة التنفيذ
شعر هاشم الرفاعي
....................................
شهداء الحرية يتساقطون في كل مكان , ويحكم عليهم بالموت...
وهذا واحد منهم يكتب إلى أبيه ( رسالة في ليلة التنفيذ )
...........................................................
أبتاه ماذا قد يخط بناني : والحبل والجلاد منتظران
هذا الكتاب إليك من زنزانة : مقرورة صخرية الجدران
لم تبق إلا ليلة أحيا بها : وأحس أن ظلامها أكفاني
ستمر يا أبتاه لست أشك في : هذا , وتحمل بعدها جثماني
.............................
الليل من حولي هدوء قاتل : والذكريات تمور في وجداني
ويهدني ألمي فأنشد راحتي : في بضع آيات من القرآن
والنفس بين جوانحي شفافة : دب الخشوع بها فهز كياني
قد عشت أؤمن بالإله ولم أذق : إلا أخيرا لذة الإيمان
...................
شكرا لهم أنا لا أريد طعامهم : فليرفعوه فلست بالجوعان
هذا الطعام المر ما صنعته لي : أمي ولا وضعوه فوق خوان
كلا ولم يشهد صحائفه معي : أخوان لي جاءاه يستبقان
مدوا إلي به يدا مصبوغة : بدمي وهذا غاية الإحسان
..................
والصمت يقطعه رنين سلاسل : عبثت بهن أصابع السجان
ما بين آونة تمر وأختها : يرنو إلي بمقلتي شيطان
من كوة بالباب يرقب صيده : ويعود في أمن إلى الدوران
أنا لا أحس بأي حقد نحوه : ماذا جنى فتمسه أضغاني ؟
هو طيب الأخلاق مثلك يا أبي : لم يبد في ظمأ إلى العدوان
لكنه إن نام عني لحظة : ذاق العيال مرارة الحرمان
فلربما - وهو المروع سحنة - : لو كان مثلي شاعرا لرثاني
أو عاد – من يدري – إلى أولاده : يوما وذكر صورتي فبكاني
..................
وعلى الجدار الصلب نافذة بها :معنى الحياة ,غليظة القضبان
قد طالما شارفتها متأملا : في السائرين على الأسى اليقظان
فأرى وجوما كالضباب مصورا : ما في قلوب الناس من غليان
نفس الشعور لدى الجميع وإن هم : كتموا , وكان الموت في إعلان
ويدور همس في الجوانح ما الذي : بالثورة الحمقاء قد أغراني ؟
أو لم يكن خيرا لنفسي أن أرى : مثل الجموع أسير في إذعان ؟
ما ضرني لو قد سكت وكلما : غلب الأسى بالغت في الكتمان ؟
هذا دمي سيسيل يجري مطفئا : ما ثار في جنبي من نيران
وفؤادي الموار في نبضاته : سيكف من غده عن الخفقان
والظلم باق لن يحطم قيده : موتي ولن يودي به قرباني
ويسير ركب البغي ليس يضيره : شاة إذا اجتثت من القطعان
......................
هذا حديث النفس حين تشف عن : بشريتي وتئوب بعد ثوان
وتقول لي إن الحياة لغاية : أسمى من التصفيق للطغيان
أنفاسك الحرى وإن هي أخمدت : ستظل تغمر أفقهم بدخان
وقروح جسمك وهو تحت سياطهم : قسمات صبح يتقيه الجاني
دمع السجين هناك في أغلاله :ودم الشهيد هنا سيلتقيان
حتى إذا ما أفعمت بهما الربى : لم يبق غير تمرد الفيضان
ومن العواصف ما يكون هبوبها : بعد الهدوء وراحة الربان
إن احتدام النار في جوف الثرى : أمر يثير حفيظة البركان
وتتابع القطرات ينزل بعده : سيل يليه تدفق الطوفان
فيموج يقتلع الطغاة مزمجرا : أقوى من الجبروت والسلطان
.............................
أنا لست أدري هل ستذكر قصتي : أم سوف يعروها دجى النسيان ؟
أو أنني سأكون في تاريخنا : متآمرا أم هادم الأوثان ؟
كل الذي أدريه أن تجرعي : كأس المنية ليس في إمكاني
لو لم أكن في ثورتي متطلبا : غير الضياء لأمتي لكفاني
أهوى الحياة كريمة لا قيد لا : إرهاب لا استخفاف بالإنسان
فإذا سقطت سقطت أحمل عزتي : يغلي دم الأحرار في شرياني
................
أبتاه إن طلع الصباح على الدنا : وأضاء نور الشمس كل مكان
واستقبل العصفور بين غصونه : يوما جديدا مشرق الألوان
وسمعت أنغام التفاؤل ثرة : تجري على فم بائع الألبان
وأتى يدق كما تعود بابنا : سيدق باب السجن جلادان
وأكون بعد هنيهة متأرجحا : في الحبل مشدودا إلى العيدان
ليكن عزاؤك أن هذا الحبل ما : صنعته في هذه الربوع يدان
نسجوه في بلد يشع حضارة : وتضاء منه مشاعل العرفان
أو هكذا زعموا وجيء به إلى : بلدي الجريح على يد الأعوان
...........................
أنا لا أريدك أن تعيش محطما : في زحمة الآلام والأشجان
إن ابنك المصفود في أغلاله : قد سيق نحو الموت غير مدان
فاذكر حكايات بأيام الصبا : قد قلتها لي عن هوى الأوطان
وإذا سمعت نشيج أمي في الدجى : تبكي شبابا ضاع في الريعان
وتكتم الحسرات في أعماقها : ألما تواريه عن الجيران
فاطلب إليها الصفح عني إنني : لا أبتغي منها سوى الغفران
ما زال في سمعي رنين حديثها : ومقالها في رحمة وحنان
أبني إني قد غدوت عليلة : لم يبق لي جلد على الأحزان
فأذق فؤادي راحة بالبحث عن : بنت الحلال ودعك من عصياني
كانت لها أمنية ريانة : يا حسن آمال لها وأماني
غزلت خيوط السعد مخضلا ولم : يكن انتقاض الغزل في الحسبان
والآن لا أدري بأي جوانح : ستبيت بعدي أم بأي جنان ؟
.............................
هذا الذي سطرته لك يا أبي : بعض الذي يجري بفكر عان
لكن إذا انتصر الضياء ومزقت : بيد الجموع شريعة القرصان
فلسوف يذكرني ويكبر همتي : من كان في بلدي حليف هوان
وإلى لقاء تحت ظل عدالة : قدسية الأحكام والميزان
..................................................................................
هاشم الرفاعي في عام 1959